فصل: تفسير الآية رقم (223):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (223):

{نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}.
التفسير:
قوله تعالى: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} أي محترث ومزدرع، تبتغون منهن ما يبتغى الحارث والزارع مما يحرثه ويزرعه، وهو الثمرة التي يجتنيها من زرعه.. وفى هذا دعوة إلى أمور، منها: رعاية المرأة، وتدبير أمرها، وإصلاح شأنها، وتوفير وسائل الحياة الطبيعية لها، شأن الزارع الذي يقوم على رعاية زرعه، وحمايته من كل ما يعرض له من سوء.. ومنها غرس ما يرجى ثمره، وما ينتفع به من ثمر، وذلك لا يكون إلا بمباشرة المرأة من حيث يؤتى بالولد الذي هو الثمرة المرجوة من هذا الغرس.
وقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} إطلاق لأى قيد في اتصال الرجل بزوجه، بعد أن يلتزم الحدود التي بينها اللّه، وهو ألا يباشرها إلا بعد أن تطهر من الحيض، ثم أن تكون المباشرة فيما ينفع ويثمر.
قوله سبحانه: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} دعوة إلى ألا يكون همّ الرجل كلّه في مباشر المرأة هو اللذة المجرّدة من كل قصد، إلا إشباع شهوته وإرواء ظمئه.
فذلك عمل مستهلك لا يبقى للإنسان منه شيء بعد ساعته.. والأولى بالإنسان هنا أن يطلب في مباشرته للمرأة النّسل، وأن يقوم على رعاية هذا النسل، وإعداده إعدادا صالحا للحياة، ليشارك في بنائها وعمرانها، وبهذا يكون قد استجاب لأمر اللّه تعالى في قوله: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} فقدم لنفسه عملا صالحا يلقاه يوم القيامة: {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [20: الشورى].
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} تعقيب على تلك المحظورات التي بينها اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآيات، وتنبيه إلى أنها من حرمات اللّه، وأن اتقاءها ومجانبتها هو الذي يرضى اللّه، ويحقق للمؤمن إيمانه، فيلقى اللّه آمنا يوم القيامة {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بما أعدّ اللّه سبحانه وتعالى لهم يوم القيامة من مغفرة ورضوان.

.تفسير الآية رقم (224):

{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}.
التفسير:
ذات اللّه سبحانه وتعالى، في جلالها وبهائها وعظمتها، ينبغى أن تكون في قلب المؤمن بمكانتها المكينة من الإجلال والتعظيم، وأن تصان من كل ما يمسّ هذه المكانة من اهتزاز أو إزعاج!.
وأسماؤه تعالى، لها ما لذاته سبحانه، من هذا الإجلال والتوقير والإعظام، فلا يتلفظ المؤمن باسم من أسمائه جلّ وعلا إلّا في مقام العبادة والتسبيح، وإلا في حال الضراعة والابتهال.
فليس بالذي يقدر اللّه حقّ قدره من يتخذ اسم اللّه يمينا يحلف به، ويقدّمه بين يدى كل أمر يعرض له، ويتخذ من جلال الاسم الكريم وعظمته وسيلة يتوسل بها إلى نفاذ ما يحلف عليه إلى مشاعر من يحلف له، فيحترم حرمة اليمين، ويصدقه.
فقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} أي لا تعرّضوا اسم اللّه تعالى للحلف به في كل ما يعترضكم من أمور دنياكم، تريدون لها التوثيق والتوكيد.
وقوله سبحانه: {أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} أي لا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم ولو كان الحلف من أجل أمر تلتزمون فيه قول الحق، وترعون فيه تقوى اللّه، وتصلحون به بين الناس.. لأن الإكثار من الحلف باللّه مقام الصدق والتقوى والإصلاح بين الناس، يفتح للإنسان الطريق إلى الحلف باللّه في مجال الكذب والفجور والإفساد بين الناس!.
فالنهى عن الحلف باللّه في مقام الصدق والتقوى والإصلاح بين الناس، ليس نهيا مطلقا، وإنما هو نهى عن الإكثار واللامبالاة، حيث لا يتحرج المرء من الحلف في هذا المقام، وهو يلتزم حدود الصدق والتقوى.. فإن هذا الإكثار في الصدق- كما قلنا- يفتح الطريق إلى الحلف بالكذب والفجور!.

.تفسير الآية رقم (225):

{لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}.
التفسير:
من رحمة اللّه سبحانه وتعالى بعباده أن تجاوز عنهم فيما يقع منهم من أيمان يجرى بها اللسان من غير قصد، فلا يراد بها إبطال حق، ولا إحقاق باطل.. فهذه الأيمان قد تجاوز اللّه عنها. ولكن ما انعقد عليه القلب منها، واحتوته النية، وصحبته العزيمة هو الذي تقع المؤاخذة عليه، فمن برّ وصدق فلا إثم عليه، ومن كذب وفجر فعليه وزر ما اكتسب، {وَاللَّهُ غَفُورٌ} يتجاوز عن سيئات المسيئين إذا أنابوا إليه، ومدّوا يد الرجاء إلى أبواب رحمته، {حليم} لا يعجل بأخذ المذنب بذنبه، بل يمهله الأيام والشهور والسنين، ليراجع نفسه، ويستغفر لذنبه، ويصطلح مع ربه.

.تفسير الآيات (226- 227):

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}.
التفسير:
تبين هاتان الآيتان الكريمتان، حكما من أحكام اللّه في العلاقة بين الرجل والمرأة، حين تتأزم بينهما الأمور، وتتصادم النفوس! ومما يأخذ الرجل به المرأة من أدب أن يهجرها، أي لا يتصل بها اتصال الرجل بالمرأة، وذلك ما تشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهنّ في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن اللّه كان عليا كبيرا (34: النساء) وليس لهذا الهجر زمن محدد، إذ هو مقدور بالقدر الذي يعدّ كافيا للتأديب والإصلاح! هذا، إذا لم يكن الهجر محكوما بيمين آلى بها الرجل على نفسه ألا يقرب زوجه، فإذا كان ذلك عن يمين، وهو ما يسمى بالإيلاء لم يكن المزوج أن يهجر زوجه أكثر من أربعة أشهر، فإن رجع خلال هذه الأشهر، وقبل انتهائها، إلى زوجه وأعاد الحياة الزوجية إلى ما كانت عليه قبل هذا الإيلاء، فزوجه حل له، وعليه كفارة يمينه: {فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يقابل سيئاتكم بالغفران والرحمة، فليذكر الزوجان ذلك، وليلق كل منهما صاحبه بالغفران والرحمة، فذلك هو الذي يمسك الحياة الزوجية بينهما، ويقيمها على طريق السلامة والأمن.
وإن أصر الرجل على موقفه طوال هذه الأشهر الأربعة- فإن إمساك المرأة بعدها في عصمته هو إضرار بها، والطلاق في تلك الحال خير لها، إذ بهذا يتحدد موقفها وتتعرف إلى مكانها في الحياة، وذلك على ما فيه من أذى، خير من إمساكها بهذا القيد الثقيل الذي يحول بينها وبين أن تتحرك إلى أي اتجاه. {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} والدلالة على عزيمة الطلاق هنا هو عدم مراجعة الزوجة خلال أربعة الأشهر، فإن طلق الزوج عند انتهاء هذه الأشهر انتهى الأمر، وإلا طلق عليه القاضي، وأخلى سبيل المرأة من هذا المقام الذي أقامها فيه الزوج، والذي لا يراد منه غير الإضرار، لا الإصلاح، كما دلّ على ذلك هذا الزمن المتطاول.. أربعة أشهر، لم ير فيها الزوج بابا يدخل منه ليصلح ما بينه وبين زوجه.. فلم يبق إلا التفرقة بينهما: {وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}.

.تفسير الآية رقم (228):

{وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}.
التفسير:
من أحكام المطلقة المدخول بها، غير المتوفّى عنها زوجها، وغير الحامل، وغير اليائسة من الحيض- أن تعتد ثلاثة قروء.
والقرء يجيء لغة بمعنى الطهر، وبمعنى الحيض أيضا، فهو ضد.
والمراد بالعدة هنا هو استبراء الرحم، ولا يتحقق الاستبراء ويقع موقع اليقين إلا بأن ترى المرأة الدم ثلاث مرات.. أي تحيض وتطهر، ثم تحيض وتطهر، ثم تحيض وتطهر، فإذا كان ذلك فقد استبرأت رحمها، وتم انفصام العلاقة الزوجية بينها وبين زوجها، وحل لها أن تتزوج.
والطلاق الشرعي هو أن يطلق من انتهى موقفه إلى الطلاق- امرأته في طهر لم يمسسها فيه، فإذا جاءها الحيض طلقها طلقة أولى رجعية، ثم إذا طهرت وجاءها الحيض طلقها طلقة ثانية، ثم إذا طهرت وجاءها الحيض طلقها الطلقة الثالثة.
قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ} أي يحرم على المرأة المطلقة المعتدة بالقروء أن تكتم ما خلق اللّه في رحمها من الولد، فتقر بالواقع، إذ القول هنا قولها، وما تعلمه هو أمانة حملتها، فإذا لم تؤد الأمانة على وجهها فقد أصبحت في الخائنات الآثمات.
وقوله تعالى: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} تذكير لهن باللّه وبالإيمان به، فإن من شأن من يؤمن باللّه أن يتقيه وأن يستقيم على طريقه القويم، وأن يقول قولة الحق، له أو عليه.
قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً} ذلك إشارة إلى الوقت الذي تكون المرأة فيه حلّا لزوجها لم تحرم عليه، بأن كانت في العدّة بعد طلاقها للمرة الثانية.. فهو أحق بها من غيره، إن أراد أن يصلح ما أفسد، ويقيم البيت الذي تهدم.
وفى قوله تعالى: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} إشارة إلى أن هذا الحق ليس خالصا للأزواج في ذلك الوقت. فللمرأة هنا أن تتزوج من تشاء، وزوجها لا يعدو أن تكون واحدا ممن يتقدمون لها، وأحقيته بها ليست حقا شرعيا، وإنما هي حق أدبىّ، لسالف العشرة بينها وبين زوجها.
قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي للنساء من الحقوق على أزواجهن مثل ما للأزواج على النساء من حقوق.. فهذا ما يقتضيه العدل، وما تقوم عليه الحياة بين شريكين، أراد اللّه لهما أن يكون كل منهما سكنا لصاحبه.
وليست هذه الحقوق التي للرجل على المرأة، والتي للمرأة على الرجل من قبيل الحقوق التي يقتضيها الغريم من غريمه، ويأخذها بيد السلطان والقانون إن ماطله الغريم والتوى بحقه.
وإنما هي حقوق تفيض بها النفس في سماحة ورضى، وتنبع من عاطفة إنسانية لا يملك الإنسان دفعها، أشبه بتلك العاطفة التي بين الآباء والأبناء، بل ربما كانت أكثر من هذا.. إنها عاطفة الأليف إلى أليفه، والعاشق إلى معشوقه.
هذا ما ينبغى أن يكون عليه ما بين الزوجين من تواد وتعاطف، وحبّ، وتراحم، وتعاون.. طواعية واختيارا، لا قهرا ولا قسرا.. وإلا فقدت الحياة لزوجية روحها، وصارت جسدا باردا، لا يلبث أن يذيل ويموت! قوله تعالى: {وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي درجة في التفاوت بينهما في الحقوق والواجبات، بمعنى أن للرجل على المرأة حقوقا أكثر درجة مما لها عليه من حقوق، وأن عليه لها من الواجبات أكثر مما لها عليه.. وصاحب الحق أولى بالفضل ممن لزمه الواجب المقابل لهذا الحق! والتعبير بدرجة يعنى أن هذا التفاوت لا يمسّ جوهر الاعتبارات الإنسانية فيهما، فهما إنسانان متساويان في الإنسانية، ولكن اختلافهما النوعي أدى إلى الاختلاف الوظيفى في الحياة بينهما: فكما كانا رجلا وامرأة.. في الجنس، كانا أولا وثانيا، في الرتبة.. وليس هذا بالذي يدخل الضيم على أي منهما، ما دام يحيا حياته على النحو الذي يلائم طبيعته.
هذا، والدرجة التي للرجل على المرأة ليست بالتي تجيء عن طريق القهر والقسر، وإنما تستدعيها تصرفات الرجل وآثاره في الحياة الزوجية، وفى مدّها بأسباب الحياة والنماء والاستقرار.. فهذا هو الذي يعطى الرجل- من غير أن يطلب- مكان الصدارة والقيادة، وإلا كان متخليا عن هذا المكان لمن هو أولى به منه، من زوجة أو ولد! قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} إشارة إلى أن العزة التي تقوم إلى جانبها الحكمة هي العزة الرشيدة البارة بأهلها وبالناس حولها.. فالمكانة التي منحتها الحياة للرجال، فجعلت لهم على النساء درجة، وأقامت لهم سلطانا عليهن- هذه المكانة إن لم تلتزم جانب الحكمة والاعتدال كانت أداة سفه وطيش، تدمر حياة صاحبها، وتفسد الحياة على من يصحبه، وسنعرض لقضية المرأة والرجل عند تفسير قوله تعالى: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} [34: النساء] إن شاء اللّه.

.تفسير الآية رقم (229):

{الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}.
التفسير:
الطّلاق وحكمته:
فى هذه الآية يبين اللّه سبحانه وتعالى الأسلوب الذي يتم به الانفصال بين الزوجين، وإنهاء الحياة الزوجية بينهما! إنه كان لابد أن يشرّع الإسلام لهذه العلاقة التي كانت قائمة بين الزوجين، ثم طرأ عليها ما يجعل بقاءها غير ممكن، لسبب أو لأكثر من سبب! وذلك ما تسميه الشريعة الإسلامية الطلاق.
والطلاق مشتق من الإطلاق، وهو ضد الإمساك والحبس..! وهذا يعنى أنه عمل فيه خلاص وفكاك من ضيق، ونجاة وعافية من بلاء.. وذلك حين تصبح الحياة الزوجية- لسبب أو لأكثر، من جهة الزوج أو الزوجة أو منهما معا- ثقيلة ثقل العلة القاتلة، بغيضة بغض العدو المقيم!
وعجيب أن ينكر بعض السفهاء على شريعة الإسلام هذا التدبير الحكيم، ويرميها- زورا بهتانا- أنها تحمل للناس هذا السلاح الذي يفصم عرى الزوجية، ويقطع أوصالها.. وذلك قطع لما أمر اللّه به أن يوصل! وبمفهوم هذا السفه الجهول علا صراخ بعض المتهوسين من الرجال والنساء- في المجتمع الإسلامى- ممن يحملون- كذبا وادعاء- رايات الإصلاح، ويدّعون- زورا وبهتانا- أنهم صوت العصر، ووجه المدنية والحضارة! نعم، علا صراخ هؤلاء المتهوسين من الرجال والنساء، يتهمون الشريعة الإسلامية، بأنها تفرض على المرأة في القرن العشرين، أسلوب الحياة البادية في عصر الجاهلية الأولى، إذ تعطى الرجل هذا الحق الذي يتحكم به في حياة المرأة بكلمة واحدة، يرسلها من فمه فإذا هي بالعراء، منبوذة نبذ النواة، وإذا هذا العش الذي كانت تأوى إليه، وتجد فيه السكن والاستقرار قد عصفت به عاصفة مدمرة، فذهبت به، وبددت شمله الجميع! وكذبوا وضلّوا! فما جاءت شريعة الإسلام هنا إلا بالدواء الناجع، والرحمة الراحمة لحياة مريضة، وداء عضال، لا يجد أصحابه للحياة طعما، ولا للراحة سبيلا..!
إن الشريعة الإسلامية لم تفرض الطلاق فرضا، ولم تجعله واجبا يؤديه الرجال ابتغاء المثوبة والرضوان.. بل هو في شريعة الإسلام أمر كريه مبغّض، لا يجيئه المرء إلا مكرها، ولا يلجأ إليه إلا مضطرا.. وحسبه شناعة وضلالا أن يقول فيه النبي الكريم: «أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق».
فالأصل في شريعة الإسلام أن تقوم الحياة الزوجية بين الزوجين على أساس الاستمرار والدوام إلى آخر العمر المقدّر لها.. ما دامت الحياة تجرى بهما في مجراها الطبيعي، وما دام الوفاق والإلف بينهما قائما.. وليس يعقل- والأمر كذلك- أن تجيء شريعة- سماوية أو وضعية- فتدعو إلى الفرقة بين الزوجين، ولو فعلت- ولن تفعل- لما وجدت من يسمع أو يجيب! ولكن هل من طبيعة الحياة أن تلزم الأزواج- في جميع الأحوال، وعلى امتداد الأزمان- أن يجمعهما الوفاق وألا يقع بينهما خلاف، وألا يتحول هذا الخلاف إلى عداوة، ثم لا تكون هذه العداوة جحيما يحترق به الزوج والزوجة معا؟
وإذا كانت الحياة بين الأزواج والزوجات- في غالبيتها وعمومها- تسير في مجرى طبيعى من مبدئها إلى نهايتها، فهل يمنع هذا من أن تكون هناك- وفى أعداد غير قليلة- علاقات زوجية مفككة الأوصال، واهية العرى، تنعقد على سمائها سحابات ممطرة دائما بشتى الآلام وصنوف العذاب؟

إن ذلك أمر واقع لا ينكره أحد، حتى أولئك الذين يصرخون في وجه الشريعة الإسلامية، من غير المسلمين أو المحسوبين على الإسلام، وينددون بأحكام الطلاق فيها.. وإن كثيرا منهم- من رجال ونساء- عاشوا في هذه التجربة، أو هم يعيشون فيها، ولكنهم مع هذا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم! ونسأل: ماذا يكون الرأى والتدبير في أمر هذا الخلاف الذي يقع بين زوجين، فيحيل حياتهما على هذا النحو الذي رأيناه؟ أيتركان هكذا يكيد كل منهما كيده لصاحبه؟ أيقطعان الحياة معا في هذا الصراع الظاهر والخفي، حتى يقضى أحدهما على صاحبه؟ وماذا يظن بأخوين استحكم بينهما الشر فالتقيا بسيفيهما، يريد كل منهما أن يقتل الآخر، وهما في مكان مطبق عليهما وليس لهما من منفذ ينفذان منه؟ إنه لابد أن تقع الجريمة، وتزهق روح أو روحان! وشواهد هذا كثيرة في محيط الجماعات التي حرّمت الطلاق.. فما أكثر المآسى والفواجع، وما أكثر الويلات والمصائب التي امتدت آثارها فجاوزت الأزواج إلى المجتمع كله، وأشاعت فيه الفساد والانحلال، وأقامت الحياة الزوجية على دخل وفساد ونفاق!! وما كان لشريعة الإسلام- وقد جاءت لتسع الحياة الإنسانية كلها، في امتداد أزمانها- ما كان لشريعة الإسلام- وتلك رسالتها- أن تغمض العين عن هذا الواقع من الحياة، وأن تدع داء كهذ الداء يأكل الناس في غير مرحمة، ويقيم في المجتمع صداعا حادا تتصدع به الأخلاق، وتفسد معه الضمائر، وتروج به سوق الكذب والنفاق! فكان عن تدبير الشريعة الإسلامية الحكيم أن رصدت لهذا الداء الذي يدخل على الحياة الزوجية ويفسد المشاعر التي بين الزوجين- الدواء الناجع، وهو فصم تلك الحياة بالطلاق، وإطلاق كل من الزوجين من هذا الوثاق الذي يشدّهما، والذي كان يوما ما داعية بهجة ومسرة، فأصبح سبب عذاب وبلاء! إن الطلاق شرّ.. ولكنه شر لابد منه، إذ يدفع به ما هو أكثر منه شرا.. والشرّ حين يدفع به شر أعظم منه يكون رحمة، ونعمة!
وبعض السمّ ترياق لبعض وقد يشفى العضال من العضال هكذا ينظر الإسلام إلى الطلاق.. إنه أمر مكروه، ولكنه مع كراهيته قد يركبه المرء مضطرا ليسلم، ولو بفقد عضو عزيز عليه من أعضائه! يقول نبىّ الإسلام صلوات اللّه وسلامه عليه: «أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق» فهو- مع أنه رخصة- بغيض كريه، لا يقدم عليه المرء إلا مضطرا، ولا يتناوله إلا مكرها، شأنه في هذا شأن المحرمات التي أباحتها الشريعة في أحوال الاضطرار، كالخمر، والميتة والدم، ولحم الخنزير، وغير ذلك مما تتقذره النفس وتعافه- فإنه عند المخمصة، وتعرض الإنسان للهلاك، قد أبيح أكلها، والأخذ منها بالقدر الذي يحفظ الحياة، ويدفع التلف.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ذلك هو الطلاق في شريعة الإسلام، دواء مرّ، يطبّ به لداء موجع، وطعام خبيث، يدفع به جوع قاتل! وإذا كان بعض الجاهلين والحمقى، وذوى الجرأة على دين اللّه، قد ترخّصوا في هذه الرخصة، واستخفوا بأمر اللّه فيها، فجاوزوا الحدود، واستباحوا الحرام في غير اضطرار، فليس ذلك بالذي يحسب على الإسلام ولا بالذي يشوّه من جلال أحكامه، وينال من حكمة شريعته.. فالتشريع شيء، والمشرّع له شيء آخر إذ ليس هناك من قوة تحجز الناس عن مخالفة الشرع، ومجاوزة حدوده! {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [29: الكهف] إنّ أكثر الذين ينظرون إلى الطلاق وتعلوا صيحاتهم في وجهه، لا ينظرون إليه في الشريعة التي حملته وحددت حدوده، ورسمت معالمه، وإنما ينظرون إلى من جهلوه، أو تجاهلوه، فعبثوا به، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا، فطلقوا في غير حرج أو تأثم، وفى غير اضطرار لدفع بلاء، والتماس نجاة وعافية!.
وقد نبهت الشريعة في أكثر من موضع إلى قداسة الحياة الزوجية وحرمتها، وعملت على تغذية المشاعر الإنسانية بين الزوجين، بآدابها وأحكامها، وجعلت من الزوجين كيانا واحدا، يغتذى من نبع واحد، هو المودة والرحمة.. فقال تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [21: الروم] وقال سبحانه: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} [1: النساء].
ويتجه الإسلام إلى الأزواج الذين في أيديهم عقدة النكاح فيدعوهم إلى الصبر والأناة، واحتمال ما يقع من مكروه في الحياة الزوجية، رجاء أن ينجلى هذا المكروه، وتنقشع سحبه، ويعود إلى الحياة الزوجية صفاؤها، وجمالها، بل ربما كان هذا المكروه هو ضرورة لازمة لتلك الحياة، حيث تنصر فيه الآلام، وتشتد العزائم، وينكشف لكلا الزوجين معدن صاحبه، وربما تكشف عن جوهر نفيس، كان خافيا في ظلال هذه الحياة الساكنة، فلما ماجت أمواجها بين مد وجزر، ظهر ما كان يكمن في أطواء النفس من خير كثير.. وفى هذا يقول اللّه تعالى مخاطبا الأزواج في شأن النساء: {وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [19: النساء].
فأى عدل بعد هذا العدل؟ وأي رحمة بعد تلك الرحمة؟ في هذا التشريع السماوي الذي لا تقوم الحياة الزوجية على دعائم سليمة إلا إذا كانت تلك الشريعة شأنا من شئونها، وحالا من أحوالها، ودواء عتيدا، يستطبّ به عند الحاجة، ويؤخذ منه بالقدر المطلوب.. جرعة، جرعة، فإن ذهب هذا الدواء بالداء في المرة الأولى، لزم التوقف والإمساك، وإلا كانت الجرعة الثانية، فإن كان فيها الشفاء، وإلا فالثالثة، ولا بعدها! فقد عظم الداء ولا أمل في الشفاء! وقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} بيان لإجراء عملية الطلاق.
وكلمة الطلاق: لفظ ينطق به الزوج في مواجهة الزوجة أو بعلمها به علما متيقنا نافيا للظن، مرادا به فصم عرا الزوجية.. وكل لفظ يؤدى هذا المعنى هو طلاق.. أما إذا وقع على غير تلك الصورة فلا يعتدّ به، ولا يحمل على محمل الجدّ في فصم علاقة أراد اللّه لها الاستقرار والتمكين.
ثم هو {مرّتان} أي عمليتان، أو عملية على مرحلتين.. ومن هنا كان القول بالطلاق جملة في لفظة واحدة، قولا بعيدا عن منطوق الآية، مجانبا الصواب والحكمة اللذين هما مناط كل حكم من أحكام الشريعة.
ولفظ {مرّتان} دال دلالة صريحة في منطوقه ومفهومه على التكرار، مرّة ثم مرة.. وإذا طلق الرجل للمرّة الأولى، فإنه يدخل في تجربة نفسية وروحية وجسدية لأول مرة في حياته مع المرأة التي اتخذ هذا القرار بشأنها.
وفى هذه التجربة تعرض له خواطر وصور، وربما امتد نظره فرأى طريقه موحشا مقفرا بغير هذا الرفيق الذي كان يصحبه، وهنا كان من حكمة التشريع أن أعفاه من مغبة هذه التجربة، فجعلها له، يتعرف بها على ما هو مقدم عليه، فيقدم أو يحجم، بعد اختبار وتجربة.
وللمرأة ما للرجل في هذه التجربة، إذ تعرف حالها بعد هذا الموقف، وتدبر أمرها على ضوئه، وربما كان في سلوكها وعنادها ما حمل الزوج على أن يقدم على هذا الذي أقدم عليه، فتراجع نفسها، وتصلح من أمرها، وتسترضى زوجها.. فيكون الوفاق والوئام!.
وللمرأة والرجل معا خير كثير في هذه المهلة. ذلك أنه إذا لم يكن عندهما من الرأى والحكمة ما يجمعهما على الوفاق، كان في نصح الناصحين لهما من الأهل والأقارب والأصدقاء، ما يبصرهما بالخير، ويكشف لهما ما غاب عنهما من رشد، وما عزب من رأى.
هذه مرحلة أولى، من مراحل الطلاق، وللرجل أن يراجع زوجه خلال فترة العدة، فإذا انتهت العدة دون مراجعة بانت منه زوجه بينونة صغرى، وصارت المرأة أجنبية عنه، لا تحلّ له إلا بعقد ومهر جديدين، برضاها أو رضى وليّها.
وسواء أعاد الرجل زوجه إليه بالمراجعة، أو بعقد ومهر جديدين، فقد حسبت عليه تطليقة.. فإذا عاد الرجل وطلق هذه الزوجة مرة أخرى.. كان له أن يراجعها ما دامت في العدة، فإذا انتهت العدة دون مراجعة صارت المرأة أجنبية عنه، وكان له أن يعيدها إليه بعقد ومهر جديدين، وبرضاها أو رضا وليها أيضا.. وحسبت عليه تطليقة أخرى.. أي أنه يكون في تلك الحال قد أوقع على زوجه تلك، تطليقتين! وهنا تصبح الحياة الزوجية بينهما واقعة تحت الحكم الوارد في قوله تعالى: {فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ}.
حيث كان ما جرى بين الزوجين غاية ما يمكن أن يصلح به شأنهما، إن كان هناك سبيل للإصلاح والاستقرار! بمعنى أنه إذا طلق الزوج زوجه هذه، بعد ذلك، كان هذا الطلاق خاتمة المطاف في تلك الدورة للحياة الزوجية بينهما، وتصبح المرأة بمجرد وقوع هذا الطلاق محرّمة عليه، بائنة بينونة كبرى، فلا تحل له، حتى تنكح زوجا غيره ثم يطلقها ذلك الزوج، أو يموت عنها، وتنتهى عدتها وهذا ما يقرره قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ...} الآية والمراد بالطلقة هنا، الطلقة الثالثة.
وقوله سبحانه: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.
بعد أن بيّن اللّه سبحانه وتعالى الطريق الذي يسلكه أولئك الذين تنتهى حياتهم الزوجية بالطلاق- بيّن أسلوب العمل في تسوية ما بين الزوجين من علاقات مادية، كانت قائمة بحكم الرابطة الزوجية بينهما.
فهناك المهر الذي قدّمه الرجل للمرأة، وهو ملك خالص للمرأة للدخول بها، ولا يحق للرجل أن يسألها شيئا منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} ولكن قد تكون المرأة متضررة بالحياة الزوجية، كارهة لها، غير محتملة أعباءها، والرجل حريص عليها، محبّ لها.. هو يريدها وهى لا تريده.
وأما وقد أصبحت الحياة الزوجية على هذا الوضع المضطرب القلق، وأما والمرأة هي صاحبة المصلحة المحققة في قطع هذه الحياة الزوجية، فإنه لا بأس من أن تفتدى نفسها بشيء مما في يدها من المهر الذي قدمه الزوج لها.. وفى هذا الذي يأخذه الرجل منها، تعويض له عن بعض ما ذهب منه، على حين تنال المرأة خلاصها، وتدير وجهها على الوجه الذي تحب.. وهذا ما يشير إليه الاستثناء الوارد على الحكم في قوله تعالى: {تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.
والحياة الزوجية المضطربة لا يمكن أن تظل هكذا وتقام فيها حدود اللّه.
وإنه لا جناح على كل من الرجل والمرأة أن يتصالحا على فدية تقدمها المرأة ليفصما بها علائق الزوجية وهذا ما يسمّى بالخلع.
وعلى هذا فإنه يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق، وأن تجاب إلى هذا الطلب إذا نزلت للزوج عن مهرها.
وقد طلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جميلة امرأة الصحابي الجليل قيس بن ثابت.
ففى الحديث أن جميلة امرأة قيس بن ثابت جاءت إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللّه، لا أجد في قيس بن ثابت عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد في طوقى مجاراته، فسألها النبيّ صلى اللّه عليه وسلم: «هل تعيدين إليه حائطه؟» فقالت: نعم.. فأمر النبي بردّ الحائط إلى قيس بن ثابت، وتطليقها! وقوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} تنبيه إلى أن هذه الأحكام قائمة داخل حدود اللّه، وأن التزامها واجب، وأن مجاوزتها هو عدوان عليها.. {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.